الأربعاء، 28 مارس 2018

الرئيسية الأربعين مزار ومدرسة

الأربعين مزار ومدرسة


الأستاذ دكتور عبد العزيز حميد صالح

أستاذ الاثار الإسلامية – جامعة بغداد
"المقالة مكتوبة في منتصف تسعينات القرن الماضي"


ملاحظة عن المقالة: يخوض الدكتور عبد العزيز حميد نقاشا يستند على عدد من المصادر التي يحاول من خلالها معرفة اصل 
المرقد و المسجد و ما يتضمنه من مدرسه المعروفة بالاربعين في تكريت, ويلاحظ ان الادله ليست بالقطعيه مما اضطر
الباحث للموضوع ان يستعين ببعض من الموروث الشعبي كما ارى خصوصا في قضية اسم الصحابي الذي يعتقد انه مدفون في 
المدرسة .
تعرض المقالة جوانب هندسية و معمارية للمدرسة و مدارس اخرى من نفس الحقبة الزمنية استعرضها الباحث كما سنرى.




تعرضنا في الفصل السابق لكل ما له علاقة بعمارة الأربعين من تفاصيل بما في ذلك تحليل العناصر المعمارية والزخرفية. وقد اعتمدنا في ذلك على نحو محدود على الدراسات والتصورات التي قدمها الاستاذان الالمانيان فرديك ساره F. sarra وارنست هرتسفلد E. herzfek والتي نشرت بين سنتي 1921 و1923 (1)
وعلى نحو أكبر على نتائج الحفائر الاثرية المنتظمة التي قامت بها بعثة تنقيبيه اوفدتها دائرة الاثار والتراث الى الموقع في صيف عام 1962, حيث كشفت معاول التنقيب لصق حجرتي المزار الشاخصتين والمتوجة كل منهما بقبة عالية عن مخطط كامل لعمارة قوامها صحن وسطي فسيح تحيط به من جهاته الجنوبية والشرقية والغربية حجرات وقاعات ذات قياسات مختلفة وايوانان متقابلان.

اما السبب الذي حمل المتخصصين في العمارة الإسلامية على الاعتقاد بانها مدرسة لكونها لا تختلف في خصائصها العامة عن خصائص المدارس الإسلامية وبشكل خاص تلك التي شيدت قبل سنة 700 هجرية (1300 ميلادية)

كذلك انها تحتوي ضمن مشتملاتها مثل بقية المدارس على عدد من الايوانات التي تطل على صحن مكشوف (2) وكما هو الامر في معظم المدارس الإسلامية القديمة فان الأربعين يضم في جهته القبلية مسجدا والمسجد هنا مستطيل الشكل حول جزؤه العلوي الى مربع بواسطة عقدين مندمجين من جهته الغربية والشرقية ثم بالاستعانة بالحنايا الركنية أقيمت فوقه قبة مرتفعة. ويلاحظ ان ما يتميز به هذا المسجد الافراط في الزخرفة والحليات العمارية التي تشغله من جوانبه المختلفة (شكل 1).
ويتميز أيضا بمحراب مجوف مهيب يقوم عقده المفصص ذو الشكل المحاري على زوجين من الاعمدة المندمجة التي تشغل جزأه العلوي تفريعات نباتية منوعة (شكل 2). ان الافراط بالزخرفة هنا امر ليس بالغريب فمن المعروف ان المدارس تتميز على نحو عام بالإتقان في البناء والاكثار من الحلي والزخرفة، ولا سيما المدارس العراقية منها فهذا الرحالة المغربي ابن جبير الذي زار العراق في سنة 580 هجرية قد اطنب في وصف مدارس بغداد التي يقول عنها ((ما فيها من مدرسة الا وهي بقصر القصر البديع عنها..)) (3)
وعندما تعرض لمدارس الموصل قال عنها انها ((كالقصور المطلة على نهر دجلة)). وها هي المدرسة المستنصرية اليوم تعد نموذجا حيا للأفراط في اتقان الزخرفة وتجويدها سوداء كانت هندسية ام نباتية.
وكم هو الامر مع كثير من المدارس التي تضم ضمن مشتملاتها مزارا او مشهدا يخصص عادة لمؤسسيها او لولي من أولياء الله الصالحين، فان هناك في الزاوية الشمالية الغربية من الأربعين مشهدا يعتقد انه للصحابي الشهيد عمر بن جنادة وصحبه الابرار الذين ضحو بحياتهم خلال معركة تحرير تكريت ابان الفتوحات الإسلامية الكبرى.
ومما تجدر ملاحظته ان المدرسة هنا هي التي الحقت بالمشهد والواقع ان الحاق بعض المدارس بمشاهد الائمة والاولياء الصالحين أمر ليس بالغريب في العالمين العربي والإسلامي في العصر العباسي فمن المدارس اليت الحقت بمشاهد الائمة على سبيل المثال مدرسة الامام ابي حنيفة النعمان التي افتتحت رسميا سنة 459 هجرية (1066 م) وهي اول مدرسة مستقلة عن المساجد تشيد في مدينة السلام. (4)
على هذا يبدو من المعقول ان تكون عمارة الأربعين مدرسة مستقلة الحقت بمشهد عمر بن جنادة وصحبه الابرار ولكن أي مدرسة هي؟
وهل كانت في تكريت مدارس مستقلة عن المساجد مثل غيرها من المدن الكبيرة في العصر العباسي؟
نحن نعلم ان حاضرة الدولة العباسية كانت حافلة بالمدارس المستقلة ابتداء من النصف الثاني من القرن الهجري الخامس / الحادي عشر الميلادي، أشهرها المدرسة النظامية التي فتحت أبوابها للتدريس في سنة 459 هجرية (1066م)
(5) ثم ازداد عددها ازديادا كبيرا في القرن التالي حتى بلغت عند زيارة ابن جبير لها في سنة 580 هجرية (1184 م) نحو ثلاثين مدرسة (6).
ويذكر ابن جبير الذي زار الموصل في سنة 580 هجرية انه كان فيها نحو ست مدارس او أكثر (7) وعندما سقطت بيد البرابرة المغول سنة 660 هجرية (1261م) مان فيها نحو ثمان وعشرين مدرسة ودارا للحديث (8).
وعلى الرغم من ان ابن جبير قد اجتاز تكريت وهو في طريقه الى الموصل لم يشر الى مدارسها وقد يعزى السبب في ذلك انه كان عابر سبيل فقط.
فالقافلة التي كان مصاحبا لها لم تمكث هناك الا نهارا واحدا حيث حطت رحلها في ظاهر تكريت عند الصباح الباكر وغادرتها عصر اليوم نفسه. فلا بد والحالة هذه
ان يكون ابن جبير الذي أمضي الليل بطوله على ظهر راحلته قد قضى الشطر الأكبر من ذلك النهار في النوم والراحة وبخاصة ان القافلة قد وصلت الى هناك في الأول من شهر تموز أي في يوم قائظ من أيام الصيف.
غير انه إذا كان ابن جبير قد أغفل الإشارة الى مؤسسات تكريت العلمية فان المؤرخ البغدادي ابن الفوطي (ت 743 هـ) لم يغفل ذلك.
فقد أشار الى وجود مدرسة تعرف بالهمامية دفن فيها امير تكريت وصاحب قلعتها
فخر الدين أبو المكارم عيسى بن مودود بن علي الذي توفي سنة 578 هجرية (1182م) وليس من المستبعد ان يكون همام الدين قد دفن في تربة كان قد أعدها لنفسه.
إذا نحن نعلم ان عددا ليس بالقليل من مؤسسي المدارس كانوا يخصصون لأنفسهم تربة داخل المدرسة ليدفنوا فيها غير ان الحظ كما يبدو لم يسعف همام الدين في ذلك اذ عاجلته المنية وهو في المزدلفة في اثناء تأديته مناسك الحج فدفن بالمعلى مقبرة مكة المكرمة (11).
الا ان مع الأسف ان ابن الفوطي لم يتطرق لا الى موقع المدرسة من تكريت ولا الى التاريخ الذي أقيم صرحها فيه. ومع ذلك فلا بد ان تكون قد شيدت بين السنة التي تولى فيها همام الدين امارة تكريت والسنة التي غادرها الى الديار الحجازية وهي 576 هجرية (1180م) (13).

والان هل يمكن ات تكون عمارة الأربعين في تكريت هي المدرسة الهمامية؟ (13)
لابد لنا من التوضيح أولا ان المزار وما تبقى من جدر ومشتملات المدرسة غفل من أي نقوش كتابية اصلية تساعد على القاء القاء الضوء على اسم المدرسة او اسم الامر بالبناء او تاريخ التشييد وان المعنيين من الآثاريين لم يجدوا الا الكتابات التي اعتاد زائرو المزار كتابتها على الجدر الداخلية في فترات زمنية لاحقة والتي لا أهمية لها في موضوعنا هذا. (14)



وعلى ذلك يتطلب البت في مثل هذا الموضوع القيام أولا بأجراء بعض المقارنات بما خلفته لنا تلك الحقبة الزمنية من عمارات مشابهه وعلى نحو خاص المدارس.
غير انه مع الأسف رغم ان المدارس التي وصلت الينا من عصر مقارب تشبه الأربعين في التخطيط تختلف عنه اختلافا واضحا إذا ما راعينا الزخرفة المعمارية وعلى ذلك فليس هنا مجال للمقارنة.
اما المساجد فمع انها تختلف على نحو أكبر عن المدارس في التخطيط والوظيفة.
لا تختلف عنها كثيرا في الريازة والزخرفة شرط ان تكون متعاصرة وذلك بسبب ما يميز به الفن الإسلامي على نحو عام من خصوصية الوحدة والشمولية.

فمن المساجد المهمة التي ترتقي الى الربع الثالث من القرن السادس الهجري جامعان كلاهما في مدينة الموصل هما الجامع الكبير الذي امر ببنائه السلطان نور الدين محمود وفرغ منه سنة 568 هجرية (1172م) ثم الجامع المجاهدي الذي ابتدأ بعمارته مدبر دولة بني زنكي مجاهد الدين قيماز سنة 572 هجرية (1176م)
وتكامل في سنة 576 هجرية (1180 م) وعلى الرغم من ان الزخارف التي وصلت الينا من ذينك الجامعين شحيحة نستطيع ان نتبين منها ان هناك اختلافا واضحا بينها وبين ما نجده منها في الأربعين فالزخارف هناك أكثر تنوعا وأكثر تطور وأكثر دقة.
وعلى هذا. ان البحث عن تاريخ مناسب ومعقول لمدرسة الأربعين يلزمنا ترك الربع الثالث من القرن السادس وشأنه والرجوع قليلا الى الوراء الى حقبة زمنية تسبق ذلك.
ومن حسن الحظ انه قد وصلت الينا مبان شاخصة ترجع الى أواخر تلك الحقبة تتشابه في الريازة والزخرفة مع مزار الأربعين ومدرسته من وجوه عديدة.
أهمها ثلاث عمارات وهي على التوالي مئذنة في مدينة عانه الشهيرة مشيدة بالحجارة المهندمة الصقيله. (15)
وهي مئذنة مثمنة الشكل تزين وجوهها الثمانية صفوف من العقود الصماء المفردة والمزدوجة تستند الى أعمدة مندمجة رتبت داخلها اطر مستطيلة (شكل 3) وهي في هذا تشبه الى حد معقول العقود المفصصة في الأربعين بتكريت.
ومن المتفق عليه بين المتخصصين في العمارة الإسلامية ان المسجد الجامع في عانه بما في ذلك مئذنته الحجرية يرتقي الى أيام حكم الامراء العقيليين العرب في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري (16).
ثانيتهما مشهد الامام محمد بن موسى بن جعفر في مدينة الدور القريبة من تكريت من جهتها الجنوبية والمشهد ذو هيكل مكعب بعض الشيء تعلوه قبة مخروطة مقرنصة ترتكز بثبات على رقبة مثمنة ترتفع في الهواء أكثر قليلا من اثنين وعشرين مترا.
ومما تجدر ملاحظته ان جدره الداخلية الأربعة تتشابه في الزخرفة الى درجة كبيرة مع ما هو موجود منها في الأربعين وذلك بالاعتماد على نحو كلي تقريبا على العقود المفصصة المقطوعة والمتراكبة او المتداخلة. التي تقوم على أعمدة مندمجة شأنها في هذا شأن الامر مع الأربعين وإضافة الى ذلك نجد ان كوشات العقود مزينة بتفريعات نباتية اغلبها انصاف مراوح تخيلية مطابقة تماما لتفريعات الأربعين النباتية في الزخرفة الجصية (شكل 4/أ).
و اذا لم يحالفنا النجاح في الحصول على نقوش كتابية اصلية تكشف لنا على نحو قطعي عن اسم صاحب المشهد او تاريخ الفراغ من البناء فقد واتانا الحظ في الأقل في بقاء لوحات رخام مثبتة في اماكنها الاصلية عددها خمسة من اصل ثماني رتبت داخل اطر من الجص نجمية الشكل تعلو الواجهات الداخلية لثلاثة من الجدر الأربعة ثبت فيها اسم من امر بتشييد البناء و هو شرف الدولة مسلم بن قريش ثم أسماء من تولوا البناء بعد مقتله في سنة 478 هجرية (1085 م) (17) وهم على التوالي عميد العراق طاهر بن علي الدهستاني و بعده اخوه عبد الجليل بن علي يلي ذلك الحاجب محمد بن الاصفهلار الملقب بالخطي الذي انجز البناء أيام وزارته على العراق ( شكل 4/ب)
على هذا يمكن القول ان إرساء قواعد مشهد الامام محمد بن موسى بن جعفر في الدور قد بدأ قبل سنة 478 هجرية (1085 م) وانجر كاملا في أواخر القرن الخامس او في السنوات الأولى من القرن السادس الهجري.

ومن العمارات المهمة المشابهة جدا لمزار الأربعين مشهد يعرف بالأمام حماد يقع وسط خرائب واطلال مدرسة تقع بالقرب من الضفة الجنوبية لنهر الزاب الأسفل ولا تبتعد كثير عن مركز قضاء الحويجة في محافظة التأميم. (* تعديلات الناشر. تم تغيير اسم المحافظة الى كركوك بعد 2003)
المشهد في حالة سيئة من الحفظ إذا لا يخلو أي من جدرانه الأربعة من التشقق التصدع الذي قد يؤدي الى تداعيه وانهياره في وقت قريب ويعزى السبب في ذلك الى عدم الصيانة والاهتمام وبخاصة ان القبة التي كانت تتوجه قد سقطت منذ امد بعيد والتي تدل بقاياها انها كانت من ضروب القباب المخروطة المفصصة.
والمشهد ذو تخطيط مربع بعض الشيء طول كل ضلع من اضلاعه من الجهة الخارجية اقل قليلا من ثمانية أمتار ومن الداخل أكثر قليلا من خمسة أمتار ونص المتر وله مدخل واحد بنصف ضلعه الغربي وكما هو الامر في مزار الأربعين في تكريت فقد عولجت واجهاته الداخلية بصفين من صفوف المشاكي الصماء الغائرة ذات العقود المفصصة المحارية الشكل في الصف السفلي منها ثلاث كبيرة الحجم وفي الصف العلوي خمس أصغر حجما (شكل 5) ويلاحظ ان محراب المزار وهو النوع المجوف يحتل مركز المشكاة السفلية الوسطي من الجدار القبلي (شكل 6).
ان الخلاف الرئيس في الريازة والزخرفة العمارية هنا وبين ما يماثلها في مزار الأربعين وجود شريط كتابي تذكاري أصلي يلف حول واجهات المشهد الداخلية عدا الضلع الذي يضم المدخل يقع بين الصفين العلوي والسفلي من صفوف المشاكي المار ذكرها تبدأ الكتابة بعد البسملة بالآية القرآنية الكريمة رقم 255 من سورة البقرة وهي (الله لا إله الا هو الحي القيوم.. الى اخر الآية الكريمة) غير ان النقش الكتابي يجنح بعد هذه الآية الكريمة نحو عدم الوضوح ومع ذلك يبدو لي انه ينتهي بتاريخ يقرأ سنة 498 هجرية تتطلب هذه القراءة المزيد من التدقيق لنتأكد منها.

و لما كان مشهد الامام حماد قريبا الى درجة كبيرة في الريازة و الزخرفة من مشهد الامام الدري في الدور و الأربعين في تكريت فانه ليخيل للمرء ان الذين عهد اليهم بوضع التصاميم المعمارية لتلك العمارات الثلاثة و البناءين الذين نفذوا العمل هم في واقع الامر مجموعة واحدة و ربما شخص واحد و لما كان مشهد الامام الدري ينحصر تاريخه على نحو مؤكد بين الحقبة الزمنية الواقعة بين الربع الأخير من القرن الخامس و بين أوائل القرن السادس الهجري و ان تاريخ مشهد الامام حماد يرجع على الأرجح الى أواخر القرن الخامس الهجري فانه لمن المعقول جدا ان يرتقي تاريخ مزار الأربعين و مدرسته الى تلك الحقبة الزمانية نفسها أي تسبق المدرسة الهمامية بما لا يقل عن ستين سنة , الا اذا عددنا ان الأمير همام الدين قد شيد مدرسته لصق مشهد الصحابي عمر بن جناد و صحبه الابرار و الذي كان قد أقامها على النمط نفسه و الشاكلة التي كان عليها ذلك المشهد.
او ان يكون همام الدين قد قام بأعمال الصيانة وترميم واسعة للمدرسة استحق معها ان تسمى باسمه او ان يكون خصص للمدرسة منحة مالية سنوية او أوقف عليها بعض العقارات كالأسواق او الحوانيت او الخانات لتدر عليها دخلا كافيا لتغطية مصروفاتها مثل جرايات المدرسين ونفقات الطلبة وغير ذلك فسميت المدرسة باسمه بسبب رعايته تلك.
وقد افادتنا المصادر التاريخية الإسلامية بمعلومات تدل على تغيير او تبديل مبان كثيرة ولأسباب مختلفة (18) ان جميع هذه الاحتمالات واردة ولكن يبقى الاحتمال الأرجح ان مدرسة الأربعين قد شيدت قبل أيام امارة همام الدين بأمد ليس باليسير فيبقى الأربعين في الاغلب أقدم مدرسة عربية إسلامية شاخصة تصل الينا في العالمين العربي والإسلامي.

تأتي بعدها في القدم مدرسة ابي منصور كوشناكين في مدينة بصرى المدرسة الصغيرة التي أقيم صرحها عام 530 هجرية (1136 م) التي خصصت لأصحاب المذهب الحنفي (19) اما المدرسة الهمامية فقد شيدت في الاغلب في موضع اخر من تكريت.
الصيانة والتجديد: -
بعد ان كشفت معاول المنقبين عن المخطط الأرضي الكامل للأربعين في سنة 1964 ارتأت دائرة الاثار والتراث العمل على صيانة ما تم اظهاره من جدر وزخارف جصية فانجر ذلك في اثناء سنة 1965 (شكل 7).

وبعد انقضاء ربع قرن من الزمن على اعمال الصيانة لوحظ ان العوامل الجوية من ريح ومطر ورطوبة قد اخذت تؤثر على نحو واضح في الجدر المكتشفة والمصانة ولا سيما التي كانت تغطي فضاءات المدرسة قد سقطت منذ امد بعيد.
ونتيجة لكل ذلك ارتأت دائرة الاثار (* تم التعديل.. للحصول على النص الأصلي تواصل مع المدونة) إعادة المدرسة والمزار الى سابق رونقها وبهائها فعهدت بتنفيذ العمل الى الدائرة الهندسية التابعة لديوان رئاسة الجمهورية بالتعاون مع دائرة الاثار والتراث ووزارة الأوقاف فتألفت لهذا الغرض لجنة خاصة تولت الاشراف على سير العمل (21).
وكانت من حصيلة ذلك ان اعيدت الجدر الى سابق ارتفاعا وروعي في ذلك ان تكون الأقسام المشيدة حديثا المكملة للجدر القديمة بالآجر والسمنت وهما مادتان مغايرتان تماما للحصى الكبيرة والجص المستعملين في أصل البناء ومن الواضح ان الغرض في هذا التبيان هو للتمييز مستقبلا بين الحديث والقديم أي بين الأجزاء الاصلية القديمة من البناء وما تم اضافته في الوقت الحاضر.
كذلك اعيد بناء القباب الثلاث الساقطة واكبرها تلك التي تعلو مسجد المدرسة في حين ان الثانية والثالثة الأصغر حجما والمتساويين في القياس تعلو الأولى الحجرة الواقعة عند الزاوية الجنوبية الشرقية والثانية الحجرة الواقعة عند الزاوية الشمالية الغربية.
اما بقية السقوف فكلها أقباء من النوع المدبب Pointed voluteالاكثر شيوعا واستعمالا في العراق عبر العصر العباسي (شكل 9).
لقد تمت زخرفة باطن القباب الجديدة بسبحات شريطية جصية ناتئة على شكل منحنيات ذات رؤوس مدببة عددها ثمانية تبدأ من عند القاعدة وتتقاطع في جهتها العليا مشكلة نجمة ثمانية كبيرة رتب داخل كل منها عنصر زخرفي نجمي او على شكل وردة كبيرة تتميز بشيء من التقعر التدريجي.
ان زخارف القباب الثلاثة هذه مستوحاة او مقتبسة مما وجدناه من زخرفة في بواطن قباب عربية إسلامية قريبة من الزمن الذي شيدت فيه مدرسة الأربعين مثل قبة المسجد الجامع في قرطبة وقبة جامع المرابطين في مراكش (22).
رصفت الثلاث الجديدة من الخارج بالآجر ومن الواضح ان الغرض من ذلك هو لحمايتها من التقلبات الجوية القاسية ولتبقى قائمة سنين طويلة قادمة ان شاء الله (* عام 2014 تهدمت معظمها خلال الاعمال العسكرية) وقد استعين في ذلك بما يعرف بين المتخصصين بالزخرفة الحصيرية الآجريه : وهو ضرب بسيط من الزخرفة ناتج عن التلاعب في طريقة ترتيب رصف الآجر و من المعروف ان اقدم استخدام لهذا النوع من الزخارف الآجرية كان في العصر العباسي الأول و على نحو خاص في قصر الاخيضر المشيد بحسب راي اكثر المتخصصين في العمارة الإسلامية في أواسط القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي و ظل قيد الاستعمال حتى أواخر العصر العثماني.

لقد روعي في الزخرفة الاجرية للقباب الثلاث ابراز سعفات نخيل رتبت على نحو شاقولي الى جانب بعضها تبدأ من عند القاعدة وتنتهي رؤوسها في منطقة تقع في النصف العلوي من القبة وقد حرص المعنيون ان يكون عددها في كل قبة أربعين سعفة وذلك تيمنا بعدد من استشهد من المقاتلين المسلمين عند تحرير تكريت اما القبتان القديمتان الشاخصتان اللتان تتوجان حجرتي المزار فقد تركتا على ما هما عليه من دون ان تغلفا بالآجر بل اكتفي بأكسائها بطبقة جديدة من الجص كذلك من دون إضافة أي ضرب من ضروب الزخرفة الجصية الى باطنهما و ذلك حفاظا على اصالتهما و اثريتهما.


وكما هو الامر في القباب الثلاث الجديدة فقد عولجت الجدر الرئيسية للأربعين بتغليفها بالآجر وذلك للحفاظ عليها وحمايتها من التقلبات الجوية (23).
وقد استعين هنا أيضا بنوع بسيط من أنواع الزخرفة الحصيرية للواجهات المطلة على الخارج في حين ترك الآجر المستخدم في تغليف الواجهات الأربع المطلة على صحن المدرسة من دون زخرفة كي لا يؤثر في شيء على الزخارف الجصية الاصلية الموجودة هناك كالمحراب الصيفي والحنيات المفصصة والاعمدة المندمجة التي تكتنف المداخل والمشيدة كلها بالجص.
أما التبليط فقد أوضحت تقارير المنقبين في سنة 1964 انه لم يتم العصور على ما يكشف عن طبيعة التبليط الأصلي المستعمل في اكساء ارضيات مشتملات المزار والمدرسة او نوعه عدا الصحن حيث وجدت في بعض زواياه بقايا تبليط بالأجر المربع لا يختلف في شيء عما نجده عادة في تبليط الصحون والفناءات المكشوفة التي ترتقي الى العصر العباسي.
ومن الملاحظ ان الآجر المربع ذا القياس الكبير المستخدم في رصف الارضيات غالبا ما يتهشم بعد مرور يضع سنوات بسبب كثرة المشي من جهة والطبيعة للآجر التي تجعله سريع الكسر من جهة أخرى ولهذا السبب ارتأت اللجنة المشرفة على تجديد الأربعين وصيانته رصف المزار وقاعات المدرسة ومشتملاتها بالرخام العراقي الصقيل اما الصحن فقد اختير له البلاطات المنحوتة من حجر الحلان الجيد.
وللتخلص من مياه الامطار وحرصا على عدم السماح لها بالتجمع فوق السقوف مما يؤدي الى تسربها الى باطن الجدر استعين بنوع من المزاريب القصيرة ووضعها في أماكن لا تبدو معها للناظر وروعي ان يكون تجمع مياه الامطار في أماكن محددة من صحن المدرسة حيث يتم من هناك التخلص منها الى شبكة تصريف المياه الرئيسية في المنطقة الواقعة بعيدا بعض الشيء عن المدرسة.

اما موضوع الانارة وما يتعلق منها بالتأسيسات الكهربائية فقد كان الحرص شديدا على إخفاء امتدادات الاسلاك ونقاط اتصالها عن اعين الزائرين ولهذا السبب استعين بالأنابيب المغلونة غير القابلة للصدأ وأخفيت تحت طبقة من الكساء الجصي كما تم اختيار أماكن محددة لتمرير تلك الانابيب بعيدا عن المناطق الحساسة من البناء مثل تلك التي توجد فيها الزخارف الجصية وما شابه ذلك فضلا عن الاستعانة بتراكيب الانارة التراثية التي تتماشى مع طبيعة البناء.
لقد احيط الأربعين من جهاته الأربع بفضاءات غفل من المباني او الشواغل اعدت لتكون حديقة واسعة وحددت بسياج قوامه سلسلة متصلة من الواح كونكريتية متجاورة يزين كل لوح منها من جهته الخارجية مشكاة مفصصة محارية الشكل مستوحاة من مشاكي الأربعين وان من يروح الولوج الى المدرسة و المزار عليه ان يجتاز احدى بوابتين مرتفعتين متشابهتين تماما أقيمت الأولى في الجهة الشمالية من السياج و الثانية من جهته الغربية.
ويلاحظ هنا ان المهندس الذي وضع تصميم هاتين البوابتين قد استعان بتركيبات عمارية قوامها صفائح او سقوف كونكريتية وآجريه تتراكب على شكل سقيفة متكسرة متداخلة ومتراكبة بانكسارات حادة وقائمة او منفرجة مكونة تشكيلات تشبه الى حد كبير الأجزاء العليا من المشاكي المحارية الخاصة بالأربعين (24) ترتفع هذه السقيفة المتميزة في الهواء عشرة أمتار وتستند الى ثمانية أعمدة او دعامات من الخرسانة المسلحة.

المصادر:
1-  Sarra F. and Herzfeld archeologist reise imEuphart und Tigris Gebiet band I. Pp.220-224
2-    يتراوح عدد الايوانات في المدارس بين الايوان الواحد والأربعة فمن المدارس ذات الإيوان الواحد مدرسة نور الدين محمود بدمشق المشيدة سنة 567 هجرية (1162م) والمخصصة لأصحاب المذهب الشافعي ومن ذوات الايوانين مدرسة ابي منصور كوشتاكين في بصرى المشيدة سنة 530 هجرية (1136م) ثم المدرسة المستنصرية في بغداد التي تم انجاز بناؤها في سنة 631 هجرية (1234م) على الرغم من انها تبدو كأن لها أربعة أيونات، و من المدارس ذات الأربعة ايوانات المدرسة الخاتونية في ارضروم باسيا الصغرى المشيدة سنة 651 هجرية (1253م) و المدرسة الناصرية في القاهرة المشيدة سنة 698 هجرية (1294م).
3-    ابن جبير، الرحلة، ص 183
4-    بشار عواد معروف، التربية والتعليم، موسوعة حضارة العراق , 8/68
5-    نفس المصدر والجزء والصفحة.
6-    ووصل العدد عند سقوطها بيد البرابرة المغول في سنة 656 هجرية (1258م) الى سبع وثلاثين كان اخرها المدرسة البشيرية التي افتتحت في سنة 653 هجرية (1255م) والتي خصصت للمذاهب الأربعة واستمر التدريس فيها حتى عصور متأخرة.
7-    ابن جبير، المصدر السابق، ص 189.
8-    بشار عواد معروف، المصدر السابق, 8/111.
9-    المصدر السابق نفسه والصفحة نفسها.
10-ابن الفوطي- عبد الرزاق بن احمد، تلخيص مجمع الآداب في معجم الألقاب، تحقيق معروف مصطفى، دمشق 1965, القسم الثالث، الجزء الرابع, 276-275
11-ابن الفوطي، الجزء نفسه، والصفحة نفسها.
12-ان هذا التاريخ قد ورد عند ابن الفوطي في قوله في ترجمته للأمير فخر الدين انه: لما عزم عمه همام الدين تبر على الحج وقد ولاه أمرها سنة ست وسبعين وخمسمائة فسار في الرعية السيرة المرضية وكان كريما شهما لم يدخر لنفسه شيء سوى الثناء والذكر الجميل ولم يزل على ولايته حتى توفي في ذي القعدة من سنة أربع وثمانين وخمسمائة ودفن بالمدرسة الهمامية (ابن الفوطي، المصدر نفسه، والجزء نفسه، والصفحة نفسها).
13- هذا ما ذهب اليه وأبده بعض الباحثين منهم باحث في رسالة نال بها درجة الماجستير من جامعة بغداد (كامل محمد حيدر، المدارس العباسية القائمة في العراق، رسالة ماجستير منشورة، جامعة بغداد, 1986, ص46)
14- Sarra und Herzfeld, op,Cit, band 2, p,223
15-لقد قطعت المئذنة في سنة 1986 ونقلت ليعاد تركيبها في موضع قريب من الشاطئ الغربي لنهر الفرات وذلك قبل ان تغمر الجزيرة المقامة عليها مياه سد صدام (سد حديثة حاليا) في سنة 1987.
16- نحن نعلم من المصادر التاريخية ان مدينة عانه والمناطق المحيطة بها فد خضعت لحكم الاسرة العقيلية منذ أواسط القرن الخامس الهجري في الأقل ومن المعروف ان الخليفة العباسي القائم بأمر الله (422 – 467 هـ / 1031 – 1075 م) كان قد نفي الى عانة عند وقوع الانقلاب العسكري الذي قام به القائد التركي المتسلط البساسيري فبقي هناك في ضيافة اميرها وصاحب قلعتها مهاوش العجلي العقيلي ابن عم الأمير قراوش بن بدران العقيلي صاحب الموصل مدة حول كامل وذلك حتى هزيمة البساسيري ومقتله قرب واسط. (ابن الجوزي، المنتظم، طبعة حيدر آباد, 8/ 191-195).
17-علاء الدين احمد العاني، المشاهد ذات القباب المخروطة في العراق، ص 48 -49.
18- منها على سبيل المثال القصر الذي اقام صرحه في بغداد الشرقية الوزير جعفر البرمكي في نحو سنة 175 هجرية (791م) والذي عرف آنذاك بالقصر الجعفري قد بدل الاسم الى القصر الماموني بعد افول نجم البرامكة وانتقال ملكيته الى الخليقة المأمون (198 – 286 هـ / 813 – 833 م) وعندما وهب المأمون القصر الى وزيره الحسن بن سهيل بات يعرف بالقصر الحسني (ياقوت الحموي، معجم البلدان , 2/260)
19- Creswell K.A.C, The Muslim architecture of Egypt Vol. 2, P.121
20- ومما يدعم هذا الرأي ان التنقيبات الاثرية قد كشفت في موضع داخل تكريت (محلة الحارة) يعرف بتل محيسن عن بقايا لعمارة ترتقي الى العصر العباسي الوسيط يبدو انها ذات صفة دينية تضم مصلى مشابها الى نحو كبير لمسجد الأربعين كما تضم أيضا قاعات وحجرات وايوانا واحدا وابارا ومكانا للوضوء يرجح المنقبون انها ربما كانت تضم مشتملاتها مدرسة. (جابر خليل، تنقيبات الموسم الأول في تل محيسن في تكريت، مجلة سومر، مجلد 36 , 1980 , ص314).
21- لقد مثل الدائرة الهندسية كل من رئيس المهندسين مؤيد الحجيات والمهندس الانشائي الدكتور سعد عبد الوهاب وممثل دائرة الاثار والتراث الدكتور عبد العزيز حميد أستاذ الاثار الإسلامية في جامعة بغداد وممثل الأوقاف المهندس المعماري ممتاز البربوتي.
22- Houg, J. D. westerm Islamic Architecture P.50
23-إذا رغب العراقيون في مستقبل الأيام في العودة للجدر الاصلية المكسوة بالجص فانه من السهولة بمكان نزع طبقة التغليف المشيد بالآجر فقد وضعت طبقة عازلة بين الاثنين أي بين الأصل والمضاف.
24-ان الذي وضع تصميم هاتين البوابتين هو المهندس المعماري مؤيد الحجيات.





شكل 1 : صورة تخيلية تخطيطية للمسجد في مدرسة الاربعين

 
شكل 2 : المحراب في مصلى مدرسة الاربعين

شكل 3 : زخارف مئذنة عانه المعمارية


شكل 4 أ : الزخارف الجصية التي تزين واحدا من جدر مشهد الامام الدوري في الدور




شكل 4 ب : مشهد داخلي لضريح محمد بن موسى بن جعفر في الدور



شكل 5 : الواجهة الداخلية لمشهد الامام حماد  في محافظة التاميم (كركوك/الحويجه)



شكل 6 : محراب الامام حماد في محافظة التأميم (كركوك/الحويجه)



شكل 7 : مدخل مدرسة الاربعين بعد اعمال الصيانة الاولى في سنة 1965


شكل 8 : القبتان الشخصتان في مدرسة الاربعين بتكريت في اثناء عمليات الصيانة الاولى



شكل 9 : رسم تخطيطي لمزار و مدرسة الاربعين بعد عمليات الصيانة و الترميم




اقرأ المقاله الاولى من نفس السلسلة و التي كانت بعنوان : مزار الاربعين في تكريت الموقع و التاريخ



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اكتب رأيك او اضافتك هنا

يتم التشغيل بواسطة Blogger.